سورة الطارق - تفسير تفسير ابن عطية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الطارق)


        


أقسم الله تعالى ب {السماء} المعروفة في قول جمهور المتأولين، وقال قوم: {السماء} هنا، المطر، والعرب تسمية سماء، لما كان من السماء، وتسمي السحاب سماء، ومن ذلك قول الشاعر [جرير]: [الوافر]
إذا نزل السماء بأرض قوم *** رعيناه وإن كانوا غضابا
وقول النابغة: [الكامل]
كالأقحوان غداة غب سمائه ***
{والطارق} الذي يأتي ليلاً، وهو اسم جنس لكل ما يظهر ويأتي ليلاً، ومنه نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس من أسفارهم أن يأتي الرجل أهله طروقاً، ومنه طروق الخيال، وقال الشاعر: [البسيط]
يا نائم الليل مغتراً بأوله *** إن الحوادث قد تطرقن أسحاراً
ثم بين الله تعالى الجنس المذكور بأنه {النجم الثاقب}، وقيل بل معنى الآية: {والسماء} وجميع ما يطرق فيها من الأمور والمخلوقات، ثم ذكر تعالى بعد ذلك على جهة التنبيه أجل الطارقات قدراً وهو {النجم الثاقب}، فكأنه قال: {وما أدراك ما الطارق}، وحق الطارق، واختلف المتأولون في {النجم الثاقب}، فقال الحسن بن أبي الحسن ما معناه: إنه اسم للجنس، لأنها كلها ثاقبة، أي ظاهرة الضوء، يقال ثقب النجم إذا أضاء، وثقبت النار، كذلك، وثقبت الرائحة إذا سطعت، ويقال للموقد اثقب نارك، أي اضئها، وقال ابن زيد: أراد نجماً مخصوصاً: وهو زحل، ووصفه بالثقوب، لأنه مبرز على الكواكب في ذلك، وقال ابن عباس: أراد الجدي، وقال بعض هؤلاء يقال: ثقب النجم، إذا ارتفع وصف زحلاً بالثقوب لأنه أرفع الكواكب مكاناً. وقال ابن زيد وغيره: {النجم الثاقب}: الثريا، وهو الذي يطلق عليه اسم النجم معرفاً، وجواب القسم في قوله: {إن كل نفس} الآية، وقرأ جمهور الناس: {لما} مخففة الميم، قال الحذاق من النحويين وهم البصريون: مخففة من الثقيلة، واللام: لام التأكيد الداخلة على الخبر، وقال الكوفيون: {إن}، بمعنى: ما النافية، واللام بمعنى: إلا، فالتقدير ما كان نفس إلا {عليها حافظ}، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي والحسن والأعرج وأبو عمرو ونافع بخلاف عنهما وقتادة: {لمّا} بتشديد الميم، وقال أبو الحسن الأخفش: {لمّا} بمعنى: إلا، لغة مشهورة في هذيل وغيرهم، يقال: أقسمت عليك لمّا فعلت كذا، أي إلا فعلت كذا، ومعنى هذه الآية فيما قال قتادة وابن سيرين وغيرهما: إن كل نفس مكلفة فعليها حافظ يحصي أعمالها ويعدها للجزاء عليها، وبهذا الوجه تدخل الآية في الوعيد الزاجر، وقال الفراء، المعنى: {عليها حافظ} يحفظها حتى يسلمها إلى القدر، وهذا قول فاسد المعنى لأن مدة الحفظ إنما هي بقدر، وقال أبو إمامة: قال النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير هذه الآية «إن لكل نفس حفظة من الله تعالى يذبون عنها كما يذب عن العسل، ولو وكل المرء إلى نفسه طرفة عين لاختطفته الطير والشياطين،».
وقوله تعالى: {فلينظر الإنسان مم خلق}، توقيف لمنكري البعث على أصل الخلقة، أي أن البعث جائز ممكن، ثم بادر اللفظ إلى الجواب اقتضاباً وإسراعاً إلى إقامة الحجة، إذ لا جواب لأحد إلا هذا، و{دافق}، قال كثير: هو بمعنى: مدفوق، وقال الخليل وسيبويه: هو على النسب أي ذي دفق، والدفق: دفق الماء بعضه إلى بعض، تدفق الوادي والسيل، إذا جاء يركب بعضه بعضاً، ويصح أن يكون الماء دافقاً، لأن بعضه يدفع بعضاً، فمنه {دافق} ومنه مدفوق. وقوله تعالى: {يخرج من بين الصلب والترائب}، قال قتادة والحسن وغيره: معناه من بين صلب كل واحد من الرجل والمرأة وترائبه، وقال سفيان وقتادة أيضاً وجماعة: من بين صلب الرجل وترائب المرأة، والضمير في {يخرج} يحتمل أن يكون للإنسان، ويحتمل أن يكون للماء، وقرأ الجمهور: {الصلب}، وقرأ أهل مكة وعيسى: {الصلُب} بضم اللام على الجميع، والتريبة من الإنسان: ما بين الترقوة إلى الثدي، وقال أبو عبيدة، معلق الحلي على الصدر، وجمع ذلك: ترائب ومنه قول الشاعر [المثقب العبدي]: [الوافر]
ومن ذهب يسن على تريب *** كلوان العاج ليس بذي غضون
وقال امرؤ القيس: [الطويل]
ترائبها مصقولة كالسجنجل ***
فجمع التريبة وما حولها فجعل ذلك ترائب، وقال مكي عن ابن عباس: إن الترب أطراف المرء ورجلاه ويداه وعيناه، وقال معمر: {الترائب}، جمع تربية، وهي عصارة القلب، ومنه يكون الولد، وفي هذه الأقوال تحكم على اللغة، وقال ابن عباس: {الترائب} موضع القلادة، وقال أيضاً: هي ما بين ثدي المرأة، وقال ابن جبير: هي أضلاع الرجل التي أسفل الصلب، وقال مجاهد: هي الصدر، وقال هي التراقي، وقيل هي ما بين المنكبين والصدر.
وقوله تعالى: {إنه على رجعة لقادر} الضمير في {إنه} لله تعالى، واختلف المفسرون في الضمير في {رجعه}: فقال قتادة وابن عباس: هو على {الإنسان} على أي على رده حياً بعد موته، وقال الضحاك: هو عائد على {الإنسان} لكن المعنى يرجعه ماء كما كان أولاً، وقال الضحاك أيضاً: يرد من الكبر إلى الشباب، وقال عكرمة ومجاهد: هو عائد على الماء، أي يرده في الإحليل، وقيل في الصلب، والعامل في {يوم} على هذين القولين الأخيرين فعل مضمر تقديره اذكر {يوم تبلى السرائر}، وعلى القول الأول، وهو أظهر الأقوال وأبينها، اختلفوا في العامل في {يوم}، فقيل: العامل {ناصر}، من قوله تعالى: {ولا ناصر}، وقيل العامل الرجع في قوله تعالى: {على رجعه}، قالوا وفي المصدر من القوة بحيث يعمل وإن حال خبر ان بينه وبين معموله، وقال الحذاق العامل فعل مضمر تقديره: {إنه على رجعه لقادر}، فرجعه {يوم تبلى السرائر}، وكل هذه الفرق فسرت من أن يكون العامل قادر، لأن ذلك يظهر منه تخصيص القدرة في ذلك اليوم وحده، وإذا تؤمل المعنى وما يقتضيه فصيح كلام العرب، جاز أن يكون العامل قادر، وذلك أنه قال: {إنه على رجعه لقادر}، أي على الإطلاق أولاً وآخراً وفي كل وقت، ثم ذكر تعالى وخصص من الأوقات الوقت الأهم على الكفار لأنه وقت الجزاء والوصل إلى العذاب ليجتمع الناس إلى حذره والخوف منه، و{تبلى السرائر} معناه: تختبر وتكشف بواطنها، وروى أبو الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن {السرائر} التي يبتليها الله تعالى من العباد: التوحيد والصلاة والزكاة والغسل من الجنابة.


{السماء} في هذا القسم يحتمل أن تكون المعرفة، ويحتمل أن تكون السحاب، و{الرجع} المطر وماؤه، ومنه قول الهذلي: [السريع]
أبيض كالرجع وسوب إذا *** ما شاخ من محتفل يختلي
وقال ابن عباس: {الرجع}، السحاب فيه المطر، قال الحسن: لأنه يرجع بالرزق كل عام، قال غيره لأنه يرجع إلى الإرض، وقال ابن زيد: {الرجع} مصدر رجوع الشمس والقمر والكواكب من حال إلى حال، ومنه منزلة تذهب وترجع، و{الصدع}: النبات، لأن الأرض تتصدع عنه، وهذا قول من قال: إن {الرجع} المطر، وقال مجاهد: {الصدع}: ما في الأرض من شعاب ولصاب وخندق وتشقق بحرث وغيره، وهي أمور فيها معتبر، وهذا قول يناسب القول الثاني في {الرجع}، والضمير في {إنه} للقرآن ولم يتقدم له ذكر، من حيث القول في جزء منه والحال تقتضيه، و{فصل}: معناه جزم فصل الحائق من الأباطيل، والهزل: اللعب الباطل، ثم أخبر تعالى عن قريش {إنهم يكيدون} في أفعالهم وأقوالهم وتمرسهم بالنبي صلى الله عليه وسلم وتدبرهم رد أمره، ثم قوى ذلك بالمصدر وأكده وأخبر عن أنه يفعل بهم عقاباً سماه {كيداً} على العرف في تسمية العقوبة باسم الذنب، ثم ظهر من قوله تعالى: {فمهل الكافرين} أن عقابه لهم الذي سماه: {كيداً}، متأخر حتى ظهر ببدر وغيره، وقرأ جمهور الناس: {أمهلهم}، وقرأ ابن عباس: {مهلهم}، وفي هذه الآية موادعة نسختها آية السيف، وقوله تعالى: {رويداً} معناه: قليلاً، قاله قتادة، وهذه حال هذه اللفظة إذا تقدمها شيء تصفه كقولك سر رويداً وتقدمها فعل يعمل فيها كهذه الآية، وأما إذا ابتدأت بها فقلت: رويداً يا فلان، فهي بمعنى الأمر بالتماهل يجري مجرى قولهم: صبراً يا زيد، وقليلاً عمرو.